سورة الإسراء - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


ولما قرر سبحانه بهذه الجمل ما يسر لهم من البر، وسهل من شدائد البحر في معرض التهديد، أتبعه أنه فعل ذلك تكريماً لهم على سائر مخلوقاته، كما هو شأنه في القدرة على ما يريد في المفاوتة بين الأمور التي كانت متساوية عند أول خلقه لها، ليستدلوا بذلك على سهولة الإعادة، مشيراً إلى أنه ركب جوهر الإنسان من نفس هي أشرف النفوس بما فضلها على قوى النفس النباتية من الاغتذاء والنمو والتوليد بالحس ظاهراً وباطناً وبالحركة بالاختيار، وخصه على سائر الحيوان بالقوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي، ويتجلى بها نور معرفة الله، ويشرق فيها ضوء كبريائه وتطلع على عالمي الخلق والأمر، وتحيط بأقسام المخلوقات من الأرواح والأجسام كما هي، فكانت بذلك النفس الإنسانية أشرف نفوس هذا العالم، وبدنه كذلك باختصاصه باعتدال القامة وامتدادها والتناول باليد وغير ذلك، فقال تعالى عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من مثل أن يقال: فلقد كرمناكم بذلك من إزجاء الفلك وإنجائكم في وقت الشدائد، أو على: ولقد فضلنا: {ولقد كرمنا} أي بعظمتنا تكريماً عظيماً {بني ءادم} أي على سائر الطين بالنمو، وعلى سائر النامي بالحياة، وعلى سائر الحيوان بالنطق، فكان حذف متعلق التكريم دالاً على عمومه لجميع الخلق، وذلك كله تقديراً للقدرة على البعث {وحملناهم في البر} على الدواب وغيرها {والبحر} على السفن وغيرها {ورزقناهم} أي رزقاً يناسب عظمتنا {من الطيبات} أي المستلذات من الثمرات والأقوات التي يأكل غيرهم من الحيوان قشّها {وفضلناهم} في أنفسهم بإحسان الشكل، وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين، وفي رزقنا لهم بما تقدم.
ولما حذف متعلق التكريم دلالة على التعميم، وكان أغلب أفراده ضالاً، قال لذلك: {على كثير ممن خلقنا} أي بعظمتنا التي خلقناهم بها وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى: {تفضيلاً} هذا ما للمجموع، وأما الخلص فهم أفضل الخلائق لما علمنا من معالجتهم بالإخلاص وجهادهم لأهويتهم، لما طبعت عليه نفوسهم من النقائص، ولما لها من الدسائس حتى امتطوا بعد رتبة الإيمان درجتي التقوى والإحسان، وتقديم الأمر للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام توطئة لهذه الآية أدل دليل على هذا.
ولما قرر سبحانه قدرته على التفضيل في الحياة الحسية والمعنوية، والمفاضلة بين الأشياء في الشيئين فثبت بذلك قدرته على البعث، وختم ذلك بتفضيل البشر، وكان يوم الدين أعظم يوم يظهر في التفضيل، أبدل من قوله: {يوم يدعوكم} مرهباً من سطواته في ذلك اليوم، ومرغباً في اقتناء الفضائل في هذا اليوم قوله تعالى: {يوم ندعوا} أي بتلك العظمة {كل أناس} أي منكم {بإمامهم} أي بمتبوعهم الذي كانوا يتبعونه، فيقال: يا أتباع نوح! يا أتباع إبراهيم! يا أتباع عيسى! يا أتباع محمد! فيقومون فيميز بين محقيهم ومبطليهم، ويقال: يا أتباع الهوى! يا أتباع النار! يا أتباع الشمس! يا أتباع الأصنام! ونحو هذا، أو يكون المراد بسبب أعمالهم التي ربطناهم بها ربط المأموم بإمامه كما قال تعالى: {وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه} وسماها إماماً لكونهم أموها واجتهدوا في قصدها، وندفع إليهم الكتب التي أحصت حفظتنا فيها تلك الأعمال {فمن أوتي} منهم من مؤتٍ ما {كتبه بيمينه} فهم البصراء القلوب لتقواهم وإحسانهم، وهم البصراء في الدنيا، ومن كان في هذه الدنيا بصيراً فهو في الآخرة أبصر وأهدى سبيلاً {فأولئك} أي العالو المراتب {يقرءون كتابهم} أي يجددون قراءته ويكررونها سروراً بما فيه كما هو دأب كل من سر بكتاب {ولا يظلمون} بنقص حسنة ما من ظالم ما {فتيلاً} أي شيئاً هو في غاية القلة والحقاره، بل يزادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاء الأعمال، ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يقرأ كتابه لأنه أعمى في هذه الدار {ومن كان} منهم {في هذه} الدار {أعمى} أي ضالاً يفعل في الأعمال فعل الأعمى في أخذ الأعيان، لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضره، ولا يميز بين حسن وقبح {فهو في الآخرة} لأن كل أحد يقوم على ما مات عليه {أعمى} أي أشد عمى مما كان عليه في هذه الدار، لا ينجح له قصد، ولا يهتدي لصواب، ولا يقدر على قراءة كتاب، لما فيه من موجبات العذاب، ولم يقل: أشد عمى، كما يقولونه في الخلق اللازمة لحالة واحدة من العور والحمرة والسواد ونحوها، لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء، فخالف ما لا يزيد؛ ولم يمله أبو عمرو مع إمالة الأول ليدل على أن معناه: أفعل من كذا، فهو وسط، والإمالة إنما يحسن في الأواخر، ولأن هذا معناه، عطف عليه قوله تعالى: {وأضل سبيلاً} لأن هذه الدار دار الاكتساب والترقي بالأسباب، وأما تلك فليس فيها شيء من ذلك؛ فالآية من الاحتباك: أثبت الإيتاء باليمين والقراءة أولاً دليلاً على حذف ضدهما ثانياً، وأثبت العمى ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.


ولما قرر أن من ترك سبيل الرشد كان كالأعمى، ومن تبعها كان كالبصير، أتبعه دليله فقال محذراً للبصراء عن الاغترار بوساوس الأشقياء: {وإن} أي وأكثر هؤلاء أعمى، قد افتتن في نفسه بهواه مع بياننا لطريق الرشد بما أوحينا إليك من هذه الحكمة حتى صارت أوضح من الشمس وإن الأعداء {كادوا} أي قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله لك بسبب عماهم عما جبلت عليه من الفطنة، وجودة الفطرة، وذكاء القريحة، وثقوب الفهم، وبعد المرمى في الوقوف على خداع المخادعين، ومكر الماكرين، لتجلي الدقائق في مرآة قلبك الصقيلة وصافي فكرتك الشفافة. ولما كانت {إن} مخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال تعالى: {ليفتنونك} أي ليخالطونك مخالطة تمليك إلى جهة قصدهم بكثرة خداعهم بإطماعهم لك في الموافقة لما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا {عن الذي أوحينا} أي بما لنا من العظمة {إليك} من الحكمة {لتفتري} أي تقطع متعمداً {علينا} على عظمتنا {غيره} من طرد من أوحينا إليك الأمر بمصابرتهم، إطماعاً منهم في إسلام من هو بحيث يرجى إسلامه إسلام الجم الغفير منهم لشرفه ونحو ذلك مما عناه الله سبحانه وهو أعلم بمراده؛ قال الرماني: وأصل الفتنة ما يطلب به خلاص الشيء مما لابسه {وإذا} أي لو ملت إليهم {لاتخذوك} أي بغاية الرغبة {خليلاً} ومن كان خليل الكفار لم يكن خليل الله، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله، واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق، وقد تقدم قريباً ما تدور عليه مادة فرا وأنه السعة، وقد بقي من تقاليبها اليائي والمهموز، فمعنى فريت الأديم: شققته فاسداً أو صالحاً- لأنه يتسع بذلك، وقال القزاز: الفري مصدر فريت الأديم- إذا شققته للإصلاح، وأفريته- إذا شققته للإفساد- كأن همزته للإزالة، وحكى أبو عبيدة: فريت الشيء وأفريته: قطعته، وفرى الكذب وافتراه: اختلقه- لأنه اتساع في القول وزيادة على ما يكفي من الصدق وتجاوز للحد، وفرى المزادة: خلقها وصنعها، وقال القزاز: خرزها- لأنها تسع ما لا تسعه قبل الخرز، قال: وأصل الفري الشق- يعني: والخرز واقع في الشق، فالعلاقة المحل، وفرى الأرض: سارها وقطعها- تشبيهاً لها بالأديم، وفرى- كرضي: تحير ودهش- من التسمية باسم السبب، لأن سبب الدهش كثرة وعظم في المحسوس، وأفراه، أصلحه أو أمر بإصلاحه- لأن الإصلاح سعة بالنسبة إلى الإفساد، وأفرى فلاناً: لامه- لأنه يلزم منه الزيادة في الكلام لما يحاج به الملوم، والفرية: الجلبة- لأنها زيادة عن الكلام المعتاد، وبالكسر: الكذب، وكغنى: الأمر المختلق المصنوع أو العظيم، والواسعة من الدلاء كالفرية، والحليب ساعة تحلب- لارتفاع الرغوة، وتفرى الشيء: انشق، والعين: انبجست، وهو يفري الفرى كغنى: يأتي بالعجب في عمله.
وقال القزاز: وتركت فلاناً يفري ويقد، أي حادّ في الأمر، وفلاناً يفري منذ اليوم- إذا جاء بالعجب، لأنه لا يعجب إلا ما زاد على الكفاية.
والرفة: التبن- لأنه ما فضل عن الحب، والرفة: دويبة تصيد تسمى عناق الأرض- لأن حالها أوسع من حال ما لا يصيد، ذكر هذا صاحب مختصر العين في المعتل بالياء فوزنه ثبة، وساقه صاحب القاموس في الهاء وقال فيما مدلوله التبن: إنه كصرد، ثم ساقه في المعتل الواوي في ورف وقال: والرفة كثبة: التبن، فاضطرب كلامه فوجب قبول مختصر العين، لكن ذكره الإمام أبو غالب بن التباني- وهو من يخضع له- في كتابه الموعب في مقلوب رهف فقال ناسباً له إلى كتاب العين ما نصه: والرفة: التبن، قال غيره: ويقال في مثل من الأمثال: استغنت التفه عن الرفه، والتفه: عناق الأرض، وهي دويبة كالثعلب خبيثة، تصيد كل شيء، وذلك أنها لا تأكل إلا اللحم- أبو حنيفة مثله، كله انتهى بحروفه، وقال صاحب القاموس في المعتل: والتفة ذكر في ت ف ف، وقال في الهاء: والتفه كثبه: عناق الأرض، وقال في الفاء: والتفة- كقفة: دويبة كجرو الكلب أو كالفأرة، واستغنت التفة عن الرفة؛ ويخففان، يضرب للئيم إذا شبع. فلعل هذا الاختلاف لغات- والله أعلم.
قال في مختصر العين: والأرفي مثل كركي: اللبن المحض الطيب- لفيضه كالغائر، جعله المختصر يائياً، والقاموس واوياً، ثم أعاده في المهموز فقال: والأرفي- كقمري: اللبن الخالص، وساق القزاز في اليائي: رافيت الرجل أرافيه مرافاة- إذا وافقته- لأن ذلك أوسع في العشرة، والريف بالكسر- الخصب، وقال في القاموس: أرض فيها زرع وخصب، والسعة في المأكل والمشرب، وما قارب الماء من أرض العرب، أو حيث الخضر والمياه والزروع، وراف البدوي: أتى الريف، والراف: الخمر- وهو لا يكون إلا عن سعة، وأرض ريفة ككيسة: خصبة، وأرافت الأرض: أخصبت.
ومن المهموز: رفأ السفينة- كمنع وأرفأها: أدناها من الشط- لاتساع من فيها بالبر، وبالنسبة إليها يكون للسلب، والموضع مرفأ، ويضم، ورفأ بينهم: أصلح، وأرفأ، جنح، وامتشط ودنى وأدنى وحابى ودارأ كرافأ وإليه لجأ، وترافؤوا: توافقوا وتواطؤوا، واليرفيء كاليلمعي: راعي الغنم والظليم النافر والظبي القفوز المولى والمنتزع القلب فزعاً- كأنه شبه بالظليم في اتساع حركته وعدم ثباته، وذلك شبيه أيضاً بفوران القدر في مجاوزة الحد، ورفأت العروس ترفئة وترفيئاً- تقدم في الواوي، والرأف: الخمر والرجل الرحيم، أو الرأفة: أشد الرحمة أو أرقها، ولا شك في دخول ذلك في السعة، ورأف: موضع أو رملة- ولعلهما واسعان، والفرأ- كجبل وسحاب: حمار الوحش أو الفتيّ منه- لشدة نفاره كالقدر في فورانها، وأمر فريء كفريّ، وكل الصيد في جوف الفرا، أي كله دونه، وفرأ- محركة: جزيرة باليمن- لعله بها بكثرة، والفأر معروف، والواحدة فأرة، والجمع فئران- سمي لقفزه في جرية، ولأنه وسع من الحشرات تصرفاً بالمشي في الجدر والسقوف ونحوها، والفأرة: شجرة ونافجة المسك، قال في القاموس: أو الصواب إيراد فارة المسك في ف ور لفوران رائحتها، أو يجوز همزها لأنها على هيئة الفأرة، وفأر كمنع: حفر وخبأ ودفن- يمكن أن يكون من السعة ومن سلبها؛ ولبن فئر- ككتف: وقعت فيه الفأرة، وأرض فئرة ومفأرة: كثيرة الفأر، وأفرت القدر بالفتح تأفر أفراً: اشتد غليانها، والإنسان: وثب وعدا، والبعير: نشط وسمن بعد الجهد كأفر كفرح فيهما، وخف في الخدمة، والذي يسعى بين يدي الإنسان ويخدمه مئفر، والأفرة- بضمتين وتشديد الراء: الجماعة- وقيدها في مختصر العين بذات الجلبة- والبلية والاختلاط، وكل ذلك واضح في الاتساع والزيادة على الكفاية، والأفرة أيضاً شدة الشر- لشدة فورانه كالقدر، وشدة الشتاء أو مطلق الشدة، ومن الصيف: أوله- لأنه يتسع به، قال في القاموس: ويفتح أولها ويحرك في الكل؛ والأرفة- بالضم: الحد بين الأرضين والعقدة- وكأن هذا سلب الاتساع، والأرفي كقمري: الماسح، وأرف على الأرض تأريفاً: جعلت لها حدود وقسمت، وتأريف الحبل: عقده، وهو مؤارفي حده إلى حدي في السكنى والمكان- والله الموفق.
ولما ذكره سبحانه بما كان في ذلك من رشده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أتبعه ببيان أنه إنما كان بعصمة الله له ليزداد شكراً، فقال تعالى: {ولولا أن ثبتناك} أي بما لنا من العظمة على ما أمرنا لما تقدم من أنا مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت رأس المتقين والمحسنين {لقد كدت} أي قاربت {تركن إليهم} أي الأعداء {شيئاً قليلاً} لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم، وكنا عصمناك فلم تركن إليهم لا قليلاً ولا كثيراً، ولا قاربت ذلك، كما أفادته {لولا} لأنها تدخل على جملة اسمية فجملة فعلية لربط امتناع الثانية بوجود الأولى، فامتناع قرب الركون مرتبط بوجود التثبيت، وذلك لأن {لولا} لانتفاء الثاني لأجل انتفاء الأول، وهي هنا داخلة على لا النافية، فتكون لانتفاء قرب الركون لأجل انتفاء التثبيت، وانتفاء النفي وجود، فإذن التثبيت موجود، وقرب الركون منتف. ويجوز أن يكون المراد الدلالة على شدة مكرهم وتناهي خداعهم إلى حالة لا يدرك وصفها، فيكون الفعل مسنداً إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد إسناده إليهم ليكون المعنى: كادوا أن يجعلوك مقارباً للركون إليهم، كما تقول لصاحبك: لقد كدت تقتل نفسك، أي فعلت ما قاربت به أن يقتلك غيرك لأجل فعلك، وهذه الآية من الأدلة الواضحة على ما خص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفضائل في شرف جوهره، وزكاء عنصره، ورجحان عقله، وطيب أصله، لأنها دلت على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو وكل إلى نفسه وما خلق الله في طبعه وجبلته من الغرائز الكاملة والأوصاف الفاضلة، ولم يتداركه بما منحه من التثبيت زيادة على ذلك حال النبوة لم يركن إليهم، وهم أشد الناس أفكاراً، وأصفاهم أفهاماً، وأعلمهم بالخداع، مع كثرة عددهم، وعظم صبرهم وجلدهم- ركوناً ما أصلاً، وإنما كان قصاراهم أن يقارب الركون شيئاً قليلاً، فسبحان من يخص من يشاء بما يشاء، وهو ذو الفضل العظيم {إذاً} أي لو قاربت الركون الموصوف إليهم {لأذقناك} أي بعظمتنا {ضعف} عذاب {الحياة وضعف} عذاب {الممات} أي ذلك العذاب مضاعفاً.
وهذه المادة تدور على الوهي، ويلزمه التقوية بالضعف- بكسر الضاد أي المثل وما زاد، وكل شيء له مكاثر فهو ضعيف بدونه، ويلزم الضعف الذي هو المثل المضموم إلى مثله: القوة، فمن الوهي: الضعف والضعف بالفتح والضم، وهو خلاف القوة، وقيل: الضعف بالفتح في العقل والرأي، وبالضم في الجسد، والضعيف: الأعمى- حميرية، وأرض مضعفة للمفعول: أصابها مطر ضعيف، وضعف الشيء بالكسر: مثله- لأن كل ما له مثل فهو ضعيف، وضعفاه مثلاه. ويقال: لك ضعفه، أي مثلاه، وثلاثة أمثاله، لأن أصل الضعف زيادة غير محصورة، وضاعفت الشيء، أي ضممت إلى الشيء شيئين فصار ثلاثة، وأضعاف الكتاب: أثناء سطوره- لأنها أمثال للسطور من البياض وزيادة عليها ومن القوة التي تلزم المثل: أضعاف البدن وهي أعضاؤه- لأن غالبها مثنى، أو هي عظامه- لأنها أقوى ما فيه، ومن الضعف أيضاً مقلوبة الذي هو ضفع- إذا أحدث وضرط، وكذا مقلوبة فضع، والضفع نجو الفيل، والضفعانة: تمرة السعدانة ذات الشوك مستديرة- كأنها فلكة، فالمعنى- والله أعلم: أذقناك وهي الحياة ووهي الممات مضاعفاً أضعافاً كثيرة.
ولما كانت القوة بعد هذا في غاية البعد، عبر بأداة التراخي في قوله تعالى: {ثم لا تجد لك} أي وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم همة {علينا نصيراً} والآية دالة على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظيم شأن مرتكبه وارتفاع منزلته، وعلى أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، فعلى من تلاها أن يتدبرها وأن يستشعر الخشية وعظيم التصلب في الدين.
ولما بين أنهم استمالوه بالرفق حتى كادوا- لولا العصمة- أن يميلوه، دل على أنهم أخافوه بعد ذلك حتى كادوا أن يخرجوه من وطنه قبل الإذن الخاص بالهجرة فقال تعالى: {وإن} أي وإنهم {كادوا} أي الأعداء {ليستنفرونك} أي يستخفونك بكثرة الأذى الذي من شأنه ذلك فيما جرت به العوائد {من الأرض} أي المكية التي هي الأرض كلها لأنها أمها {ليخرجوك منها} مع أن وجودك عندهم رحمة لهم، فلا أعمى منهم! وأصل الفز القطع بشدة- قاله الرماني {وإذاً} أي وإذا أخرجوك {لا يلبثون خلافك} أي بعد إخراجك لو أخرجوك {إلا قليلاً} وسيعلمون إذا أذنا لك في النزوح كيف نصبّ عليهم العذاب بعد خروجك بقليل، برمحك الطويل، وسيفك الصقيل، وسيوف أتباعك المؤمنين، لثبوت هذا الدين، وقد حقق الله سبحانه هذا الوعيد بقتل صناديدهم في غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة بعد ثمانية عشر شهراً من مهاجرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحرم على المشركين الذين أخرجوه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة المشرفة الدخول إليها والإقامة في حريمها من جزيرة العرب، إكراماً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانتقاماً ممن يعتقد شيئاً من كفر من أخرجوه؛ ورفع {يلبثون} لأن {إذن} إذا وقعت بعد الواو والفاء جاز فيها الإلغاء، لأنها متوسطة في الكلام كما أنه لا بد من أن تلغى في آخر الكلام، وفي الآية بيان لأن الجاهل لا يزال ينصب للعالم الحبائل، ويطلب له الغوائل، فيعود ذلك عليه بالوبال، في الحال والمآل.


ولما أخبره بذلك، أعلمه أنه سنته في جميع الرسل فقال تعالى: {سنة} أي كسنة أو سنتنا بك سنة {من قد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة.
ولما كان الإرسال قد عمت بركته بهذه العظمة جميع الأزمان بما حفه به من قويم الفطرة، أسقط الجار فقال تعالى: {قبلك} أي في الأزمان الماضية كلها {من رسلنا} بأن جعلنا وجودهم بين ظهراني قومهم رحمة لقومهم، فإذا أخرجوهم عاجلنا من رضي بإخراجهم بالعقوبة {ولا تجد لسنتنا} أي لما لها من العظمة {تحويلاً} أي بمحول غيرنا يحولها، لكنهم خصوا عن الأمم السالفة بأنهم لا يعذبون عذاب الاستئصال تشريفاً لهم بهذا النبي الكريم.
ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى: {أقم} أي حقيقة بالفعل ومجازاً بالعزم عليه {الصلاة} بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير، وفناء كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء، وأدفع الأشياء للضراء، وأجلبها لكل سراء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى: {لدلوك الشمس} أي زوالها واصفرارها وغروبها، قال في القاموس: دلكت الشمس: غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء. فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه، أما في الظهر والمغرب فواضح، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى: {إلى} حثاً على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصلياً دائماً، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق {غسق الّيل} فالغسق: ظلمة أول الليل، وهو وقت النوم؛ وقال الرازي في اللوامع: وهو استحكام ظلمة الليل، وقال الرماني: ظهور ظلامه؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى: {وقرءان} فكأنه قال: ثم نم وأقم قرآن {الفجر} إشارة إلى الصبح، وقيل: نصب على الإغراء، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقاً بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم.
ولما كان القيام من المنام صعباً، علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى: {إن قراءن الفجر كان مشهوداً} يشهده فريقا الملائكة، وهو أهل لأن يشهده كل أحد، لما له من اللذة في السمع، والإطراب للقلب، والإنعاش للروح، فصارت الآية جامعة للصلوات؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، يقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم {إن قرءان الفجر} الآية. قالوا: وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل؛ ثم حث بعدها على التهجد لأفضليته وأشديته فقال تعالى: {ومن} أي وعليك بعض، أو قم بعض {الّيل فتهجد} أي اترك الهجود- وهو النوم- بالصلاة {به} أي بمطلق القرآن، فهو من الاستخدام الحسن {نافلة لك} أي زيادة مختصة بك؛ قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: وأصل النفل الزيادة، ومنه الأنفال الزائدة على الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة، وقال أبو عبد الله القزاز: النوافل: الفواضل، ومن هذا يقولون: فلان ممن ترجى نوافله- انتهى. فهو زيادة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الفرض وللأمة في التطوع، وخص به ترغيباً للأمة لأنهم يعلمون أنه لا يخص إلا بخير الخير، لأنه الوقت الذي كني فيه عن استجابة الدعاء بالنزول إلى السماء الدنيا اللازم منه القرب الوارد في الأحاديث الصحيحة أنه يكون في جوف الليل، لأن من عادة الملوك في الدنيا أن يجعلوا فتح الباب والقرب منه ورفع الستر والنزول عن محل الكبرياء أمارة على قضاء الحوائج، وكل ما يعبر به عن الله تعالى مما ينزه سبحانه عن ظاهره يكون كناية عن لازمه، وبين ذلك حديث رويناه في جزء العبسي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن في الليل ساعة يفتح فيها أبواب السماء فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟» إلى آخره، فهذا شاهد عظيم لهذا التأويل.
ولما أمره سبحانه بالتهجد والتذلل، وكان السياق للعظمة رجاء في النوال بما يليق بالسياق فقال تعالى: {عسى أن} أي لتكون بمنزلة الراجي لأن {يبعثك} ولما كان السياق قد انصرف للترجية، عبر بصفة الإحسان فقال تعالى: {ربك} أي المحسن إليك بعد الموت الأكبر وقبله، كما بعث نفسك من الموت الأصغر إلى خدمته {مقاماً} نصب على الظرف {محموداً} وذلك لأن {عسى} للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه، وقد يضعف ذلك فيلزم الشك في الأمر، وقد يقوى فيأتي اليقين، وهي هنا لليقين، قالوا: إن عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع أحداً في شيء ثم حرمه كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يفعل ذلك، وعبر بها دون ما يفيد القطع لأن ذلك أقعد في كلام الملوك لأنه أدل على العظمة، وللبخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع! يا فلان اشفع! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
أي فيظهر ما له من الحظ من اسمه أحمد ومحمد في ذلك الحين بحمد كل ذي روح بإيصال الإحسان إلى كل منهم بالفعل، وله في التفسير وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» يعني- والله أعلم- الشفاعة الخاصة، وأما العامة فللكل بغير شرط.
ولما كان هذا المقام صالحاً للشفاعة ولكل مقام يقومه، وكان كل مقام يحتاج إلى التوفيق في مباشرته والانفصال عنه، تلاه حاثاً على دوام المراقبة واستشعار الافتقار بقوله مقدماً المدخل لأنه أهم: {وقل رب} أي أيها الموجد لي، المدبر لأمري، المحسن إليّ {أدخلني} في كل مقام تريد إدخالي فيه حسي ومعنوي دنيا وأخرى {مدخل صدق} يستحق الداخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً {وأخرجني} من كل ما تخرجني منه {مخرج صدق}.
ولما كان الصدق في الأمور قد لا يقارنه الظفر، قال تعالى: {واجعل لي} أي خاصة {من لدنك} أي عندك من الخوارق التي هي أغرب الغريب {سلطاناً} أي حجة وعزاً {نصيراً} وفيه إشعار بالهجرة وأنها تكون على الوجه الذي كشف عنه الزمان من العظمة التي ما لأحد بها من يدان.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9